كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس أنه قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وتقدم أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا. فائدة: قال بعض العلماء: كانت إسراآته صلى الله عليه وسلم أربعًا وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها قال ومما يدل على أنّ الإسراء ليلة فرض الصلاة كانت بالجسم ما ورد في بعض طرق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استوحش لما زج به في النور ولم ير معه أحدًا إذ الأرواح لا توصف بالوحشة ولا بالاستيحاش قال: ومما يدلك على أنّ الإسراء كان بجسمه ما وقع له من العطش فإنّ الأرواح المجردة لا تعطش، ولما كان صلى الله عليه وسلم قد وصل الجحيم وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم وكان ذلك في غاية الغرابة ضمها إلى الإسراء في ذلك بقوله تعالى: {والشجرة الملعونة في القرآن} لأنّ فيها امتحانًا أيضًا بل قال بعض المفسرين هي على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. واختلف في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في قوله تعالى: {إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم} [الدخان:] فكانت الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أنّ أبا جهل قال: زعم صاحبكم أنّ نار جهنم تحرق الحجارة حيث قال: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة] ثم يقول في النار شجرة والنار تأكل الشجر فكيف يولد فيها الشجر. والثاني: قال ابن الزبعري: ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرًا {إنا جعلناها فتنة للظالمين} [الصافات] الآيات {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام] من قال ذلك فإن الله تعالى قادر على أن يجعل الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقيت سالمة لا تعمل فيها النار، وترى النعامة تبلع الجمر وتبلع الحديد الحمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه تعالى جعل في الشجر نارًا فما تحرقه قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا} [يس] فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة؟
أجيب: عن ذلك بوجوه الأوّل المراد لعن الكفار الذين يأكلونها لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. الثاني: أنّ العرب تقول لكل طعام ضار إنه ملعون. الثالث: أنّ اللعن في اللغة الإبعاد ولما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير سميت ملعونة، وقيل إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: {لعن الذين كفروا} [المائدة] الآية. وقيل: هي الشيطان. وقيل أبو جهل.
وعن ابن عباس هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه يرسل بالآيات تخويفًا قال هنا أيضًا: {ونخوّفهم فما يزيدهم} أي: الكافرين والتخويف بالقرآن. {إلا طغيانًا كبيرًا} أي: تجاوز للحد هو في غاية العظم فبتقدير أن يظهر الله تعالى لهم المعجزات التي اقترحوها لم يزدادوا بها إلا تماديًا في الجهل والعناد فاقتضت الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات فإنهم قد خوّفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر، وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات. ولما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أمّا الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأمّا الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوّة فبيّن تعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج عن الإيمان والدخول في الكفر بقوله تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {قلنا} بما لنا من العظمة التي لا ينقض مرادها {للملائكة} حين خلقنا أباك آدم وفضلناه {اسجدوا لآدم} أي: امتثالًا لأمري {فسجدوا إلا إبليس} أي: أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته وذلك معنى قوله تعالى: {قال} أي: منكرًا متكبرًا {أأسجد} أي: خضوعًا {لمن خلقت} حال كون أصله {طينًا} فكفر بنسبته لنا إلى الجور متخيلًا أنه أفضل من آدم عليه السلام من حيث أن الفروع ترجع إلى الأصول وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم وذهب عنه أن الطين أنفع من النار وعلى تقدير التنزل فالجواهر كلها من جنس واحد والله تعالى هو الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض. وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سبع سور وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدّم في البقرة ولعل هذه القصة إنما كررت تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه فكأنه تعالى يقول ألا ترى أن أول الأنبياء هو آدم عليه السلام ثم أنه كان في محنة شديدة من إبليس وأنّ الكبر والحسد كل منهما بلية عظيمة ومحنة عظيمة للخلق وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفًا ولم يدخل ورش وابن كثير بينهما ألفًا ولورش أيضًا إبدال الثانية ألفًا، وإذا وقف حمزة سهل الثانية كقراءة ابن كثير وقرأ هشام بالتحقيق في الثانية والتسهيل وإدخال ألف بينهما. وقرأ الباقون بتحقيقهما بلا إدخال. ولما أخبر تعالى بتكبره كان كأنه قيل أن هذه الوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى فهل كان منه غير ذلك قيل:
{قال أرأيتك} أي: أخبرني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش وجه ثان وهو أن يبدلها ألفًا وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق. {هذا الذي كرّمت عليّ} لم كرّمته عليّ مع ضعفه وقويّ فكأنه قيل لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب فما كان بعد هذا فقيل: قال مقسمًا لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: {لئن أخرتن} أي: أيها الملك الأعلى تأخيرًا ممتدًّا. {إلى يوم القيامة} حيًا متمكنًا وجواب القسم الموطأ له باللام. {لأحتنكنّ} أي: بالإغواء {ذريته} أي: لاستولين عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابة الأسفل حبلًا يقودها به فلا تأبى عليه. وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد النون في أخرتني عند الوصل وحذفها في الوقف، وأثبتها ابن كثير وصلًا ووقفًا وحذفها الباقون وقفًا ووصلًا اتباعًا للرسم.
ولما علم أنه لا يقدر على الجميع قال: {إلا قليلًا} وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر] فإن قيل: كيف ظنّ إبليس هذا الظنّ الصادق بذرية آدم؟
أجيب: بأوجه الأوّل: أنه سمع الملائكة يقولون {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} فعرف هذه الأحوال. الثاني: أنه وسوس إلى آدم ولم يجد له عزمًا فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. الثالث: أنه عرف أنه مركب من قوّة بهيمية شهوية وقوّة وهمية شيطانية وقوّة عقلية ملكية، وقوّة سبعية غضبية، وعرف أن بعض تلك القوى تكون هي المستولية في بعض أوّل الخلقة ثم إن القوّة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومن كان كذلك كان ما ذكره إبليس لازمًا له ثم كأنه قيل لقد أطال عدوّ الله الاجتراء فما قال له ربه بعد ذلك فقيل:
{قال} ممدّا له {اذهب} أي: امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سوّلت له نفسه، وتقدّم في الحجر أنه إنما يؤخر إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم ينفخ في الصور لا أنه يؤخر إلى يوم القيامة كما طلب، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائيّ بادغام الباء الموحدة في الفاء، وأظهرها الباقون.
ولما حكم تعالى بشقاوته وشقاوة من أراد طاعته له تسبب عنه قوله تعالى: {فمن تبعك منهم} أي: أولاد آدم عليه السلام {فإن جهنم} أي: الطبقة النارية التي تتجهم داخلها {جزاؤكم} أي: جزاؤك وجزاء أتباعك تجزون ذلك {جزاء موفورًا} أي: مكملًا وافيًا بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة. ولما طلب إبليس اللعين من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم ذكر الله تعالى له أشياء الأوّل اذهب، أي: امض كما مرّ فإني أمهلتك هذه المدّة وليس من الذهاب الذي هو ضدّ المجيء. الثاني: قوله تعالى: {واستفزز} أي: استخف {من استطعت منهم} أن تستفزه وهم الذين سلطناك عليهم {بصوتك} قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله تعالى فهو من جند إبليس، وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب. الثالث: قوله تعالى: {وأجلب} أي: صح {عليهم} من الجلبة وهي الصياح {بخيلك ورجلك}.
واختلفوا في الخيل والرجل على أقوال الأوّل: روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى وعلى هذا فخيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جيش من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما يقال للرجل المجد في الأمر جدّ بالخيل والرجل. قال الرازي: وهذا أقرب. وقال الزمخشري: هو كلام ورد مورد التمثيل مثل في تسلطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم فصوّت بهم صوتًا يستفزهم من أماكنهم ويقلقلهم عن مراكزهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم والخيل تقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» وقد تقع على الأفراس خاصة. وقرأ حفص عن عاصم بكسر الجيم وسكنها الباقون جمع راجل كصاحب وصحب وراكب وركب ورجل بالكسر والضم لغتان مثل حدث وحدث وهو مفرد أريد به الجمع. الرابع قوله تعالى: {وشاركهم في الأموال والأولاد} أمّا المشاركة في الأموال فقال مجاهد: هو كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام. وقال قتادة: هو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو ما يذبحونه لآلهتهم. وقال عكرمة: هو تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هو جعلهم من أموالهم شيئًا لغير الله، كقولهم: {هذا لله} {وهذا لشركائنا} [الأنعام] ولا منافاة بين جميع هذه الأقوال. وأمّا المشاركة في الأولاد فقال عطاء عن ابن عباس: هو تسمية الأولاد بعبد شمس وعبد العزى وعبد الحرث وعبد الدار ونحوها وقال الحسن: هو أنهم هوّدوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم وروي عن جعفر بن محمد أنّ الشيطان يعقد ذكره على ذكر الرجل فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها، كما ينزل الرجل ويقال في جميع هذه الأقوال أيضًا ما تقدّم.
وروي أنّ رجلًا قال لابن عباس: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال ذلك من وطء الجنّ.
وفي الآثار أنّ إبليس لمّا خرج إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذرّيته. قال: أنت مسلط. قال: لا أستطيعه إلا بك فزدني قال: {استفزز من استطعت منهم بصوتك}. قال: آدم: يا رب سلطت إبليس عليّ وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك. قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه. قال: زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها. قال: زدني. قال: التوبة مفروضة ما دام الروح في الجسد. فقال: زدني. فقال: {يا عبادي الذين أسرفوا} [الزمر] الآية.
وفي الخبر أنّ إبليس قال: يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبًا فما قرآني؟ قال: الشعر. قال: فما كتابي؟ قال: الوشم. قال: ومن رسولي؟ قال: الكهنة. قال: فما طعامي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي. قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر. قال: وأين مسكني؟ قال: الحمامات. وقال: وأين مجلسي؟ قال: الأسواق. قال: وما حبائلي؟ قال: النساء. قال: وما أذاني؟ قال: المزمار. الخامس قوله تعالى: {وعدهم} أي: من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرّهم من ذلك وعدهم بأن لا جنة ولا نار ومن ذلك شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى بالأنساب الشريفة وتسويف التوبة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك. وقوله تعالى: {وما يعدهم الشيطان} من باب الالتفات وإقامة الظاهر مقام الضمير ولو جرى على سنن الكلام الأوّل لقال وما تعدهم بالتاء من فوق.
وقوله تعالى: {إلا غرورًا} فيه أوجه أحدها: أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه مصدر والأصل إلا وعدًا غرورًاز الثاني: أنه مفعول من أجله، أي: ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. الثالث: أنه مفعول به على الاتساع، أي: ما يعدهم إلا الغرور نفسه والغرور تزيين الباطل بما يظنّ أنه حق. فإن قيل: كيف ذكر الله تعالى هذه الأشياء لإبليس وهو يقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء؟
أجيب: بأنّ هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} [فصلت].
وكقول القائل: اعمل ما شئت فسوف ترى، وكما يقال اجهد جهدك فسوف ترى ما ينزل بك. ولما قال الله تعالى له افعل ما تقدر عليه قال تعالى: {إنّ عبادي} أي: الذين أهلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان {ليس لك عليهم سلطان} أي: فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك {وكفى بربك} أي: الموجد لك {وكيلًا}، أي: حافظًا لهم منك. ولما ذكر تعالى أنه الوكيل الذي لا كافي غيره أتبعه بعض أفعاله الدالة على ذلك بقوله تعالى: {ربكم} أي: المتصرف فيكم هو {الذي يزجي} أي: يجري {لكم الفلك} ومنها التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه الصلاة والسلام {في البحر لتبتغوا} أي: لتطلبوا {من فضله} الربح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ثم إنه تعالى علل ذلك بقوله عز وجل: {إنه} أي: فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه {كان} أي: أزلًا وأبدًا {بكم رحيمًا} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه. تنبيه: الخطاب في قوله ربكم وفي قوله إنه كان بكم عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها وأمّا قوله تعالى: {وإذا مسكم الضرّ} أي: الشدة {في البحر} خطاب للكفار بدليل قوله تعالى: {ضلّ} أي: غاب عن ذكركم وخواطركم {من تدعون} أي: تعبدون من الآلهة {إلا إياه} وحده فأخلصتم له الدعاء علمًا منكم أنه لا ينجيكم سواه {فلما نجاكم} من الغرق وأوصلكم بالتدريج {إلى البرّ أعرضتم} عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك {وكان الإنسان} أي: هذا النوع {كفورًا} أي: جحودًا للنعم بسبب أنه عند الشدّة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره، وقوله تعالى: {أفأمنتم} الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه {أن نخسف بكم جانب البرّ} فنغيبكم في، أي: جانب كان منه لأنّ قدرتنا على التغيبين في الماء والتراب على السواء فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله تعالى في جميع الجوانب {أو} أمنتم أن {نرسل عليكم} من جهة الفوق شيئًا من أمرنا {حاصبًا} أي: نمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطرناها على قوم لوط قال الله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم حاصبًا} [القمر] وقيل الحاصب الريح {ثم لا تجدوا لكم} أيها الناس {وكيلًا} ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلًا غيره.
{أم أمنتم} أي: جاوزت بكم الغباوة حدّها فلم تجوّزوا ذلك {أن نعيدكم فيه} أي: البحر الذي يضطرّكم إلى ذلك فنقسركم عليه وإن كرهتم {تارة أخرى} بأسباب تضطرّكم إلى أن ترجعوا فتركبوه {فنرسل عليكم قاصفًا من الريح} أي: ريحًا شديدة لا تمرّ بشيء إلا قصفته فتكسر فلككم {فنغرقكم} في البحر الذي أعدناكم فيه بقدرتنا {بما كفرتم} أي: بسبب إشراككم وكفرانكم نعمة الانجاء {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا} أي: مطالبًا يطالبنا بما فعلنا بكم. تنبيه: تارة بمعنى مرّة وكرّة فهي مصدر وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ** فيبدو وتارات يجم فيغرق

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أن نخسف أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم جميع هذه الخمسة بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله تعالى: {ربكم} إلى آخره. والقراءة الثانية على سنن ما تقدّم من الغيبة. اهـ.